ملف التحقيقات في جريمة انفجار مرفأ بيروت يوم 4 آب. من أين نبدأ؟ من حقيقة أن نيترات الأمونيوم قتلت 215 شخصاً وجرحت 6000، وهدمت نصف العاصمة، وهجّرت عشرات الآلاف؟ من حقيقة أنّ السلطة السياسية والأمنية تتهرّب من التحقيقات وترفض ملاحقتها وإسقاط الحصانات وإعطاء الأذونات لاستجواب مسؤولين مدّعى عليهم في الملف؟ من حقيقة أنه بعد عام على المجزرة، لا تزال هذه السلطة السياسية تقول “لم أكن أعلم” حيناً، و”قمت بواجباتي” حيناً آخر، وصولاً إلى رفض تحمّل المسؤوليات؟ من حقيقة أنّ لا تعاون دولياً مع لبنان بخصوص الاستنابات القضائية الموجّهة للخارج، للحصول على صور الأقمار الصناعية واستجواب مدعى عليهم من أصحاب شحنة نيترات الأمونيوم وناقليها إلى مرفأ بيروت؟
كل هذه العرقلة والفضائح السياسية في جهة، وفي الضفة المقابلة أهالي ضحايا وشهداء وعموم اللبنانيين. وإلى جانبهم محقّق عدلي لا يزال يصرّ على استكمال تحقيقاته والحصول على إفاداته وتدوين استجواباته.
النظريات.. قائمة
لا أجوبة شافية حتى الساعة في ما يتعلّق بانفجار المرفأ، وأسباب الحريق الذي اندلع في العنبر رقم 12، حيث تم تكديس مئات أطنان الأمونيوم (وليس 2750 طناً، ليس كل الكمية التي وصلت إلى بيروت) وإلى جانبها مفرقعات وزيوت ومواد خطرة. فالنظريات الثلاث حول الانفجار لا تزال قائمة. ونسب صلاحيتها متفاوتة. لكن لا شيء محسوماً بها، بغض النظر عن إمكانية استبعاد بعضها، تبعاً لتقارير أمنية محلية ودولية.
النظرية الأولى، الاعتداء العسكري والقصف الصاروخي.
النظرية الثانية، العمل الأمني أو التخريبي.
النظرية الثالثة، ورشة التلحيم.
في الأولى، أثبتت التقارير عدم وجود بقايا صواريخ. في الثانية، لم تثبت حتى الساعة كاميرات المراقبة أي تخريب. في الثالثة، لا تزال الاختبارات قائمة للتأكد من صحتها.
الإهمال والتقصير
النظريات الثلاث، يضاف إليها صيغة “القضاء والقدر”، لا تلغي مسؤولية السلطة السياسية والمسؤولين المتعاقبين. في مرفأ بيروت، حصل إهمال وتقصير كبيران، بحجم انفجار 4 آب، في كيفية التعامل مع أطنان نيترات الأمونيوم وتخزينها ومراقبتها. أهمال وتقصير، يبدآن مع أصغر المسؤولين عن السلامة العامة، وصعوداً باتجاه رؤسائهم والمدراء العامين في المؤسسات الإدارية والأمنية، وصولاً إلى الوزراء والرؤساء. والإهمال والتقصير لا يقتصران فقط على تخزين النيترات، بل لعدم معالجته، لعدم إبلاغ كل الأجهزة الأمنية به، لعدم طرح هذا الملف على طاولة مجلس الوزراء وطاولة المجلس الأعلى للدفاع. كان بإمكان أي من الأطراف المعنية، رؤساء ووزراء وضباطاً وأجهزة أمنية وأسلاكاً إدارية إثارة الملف في الإعلام، أسوة بما يفعلونه عموماً للإيقاع بخصومهم السياسيين بحثاً عن حصة أو غنيمة. لكن ذلك لم يحصل. الإهمال والتقصير، من رأس الهرم إلى أدناه، قائمان ويترتّب عليهما مسؤولية الجرم الفادح.
المدعى عليهم
بعد القاضي فادي صوّان، تسلّم القاضي طارق البيطار دفّة التحقيق منتصف شباط الماضي. راجع الملف، أعاد استجواب الموقوفين، استدعى شهوداً آخرين ممن كانوا في المرفأ لحظة التفجير، وسطّر استنابات قضائية جديدة. وجاء الادعاء الأبرز على كل من رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، الذي علم بالنيترات قبل أسابيع من التفجير. على الوزراء السابقين، في وزارة الداخلية نهاد المشنوق، في وزارة الأشغال يوسف فنيانوس وغازي زعيتر وفي وزارة المال علي حسن خليل. إضافة إلى كل من قائد الجيش السابق جان قهوجي، مدير المخابرات العسكرية كميل ضاهر، والعميدين جودت عويدات وغسان غرز الدين. إضافة إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لجهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا. ولا يزال الادعاء قائماً على عمال ورشة التلحيم، سليم شبلي وأحمد رجب ورائد الأحمد وخضر الأحمد. وعلى المسؤولين والموظفين في المرفأ، مدير العمليات سامر رعد، رئيس مصلحة البضائع مصطفى فرشوخ، أمين مستودع العنبر رقم 14 وجدي قرقفي، رئيس مصلحة الأمن والسلامة بالتكليف زياد العوف، رئيس المشاريع في المرفأ ميشال نحول، مدير عام الجمارك بدري ضاهر، مدير عام المرفأ حسن قريطم، مدير عام وزارة النقل عبد الحفيظ القيسي، مدير عام الجمارك السابق شفيق مرعي، رئيس دائرة المانيفست نعمة براكس، رئيس مصلحة المرفأ والمدير الإقليمي فيه بالإنابة حنا فارس، رئيس الميناء محمد المولى والعميد في مخابرات الجيش انطوان سلوم.
إطلاق موقوفين
وعلى دفعتين، اتّخذ المحقق العدلي في الملف، القاضي البيطار، قراراً بتخلية سبيل 8 من المدعى عليهم، وهم الكاتب لدى دائرة المانيفست والمسؤول عن الجردة مخايل المر، المهندسة المشرفة على أعمال الصيانة نايلة الحاج، السائق جوني جرجس، الرائد في جهاز أمن الدولة جوزيف النداف، الرائد في الأمن العام داود فياض، الرائد في الأمن العام شربل فواز، الرقيب أول في الجمارك إلياس شاهين والرقيب أول في الجمارك خالد الخطيب.
العرقلة القائمة
بعد صدور قرار الادعاء على رئيس الحكومة والوزراء واللوائين إبراهيم وصليبا، بدأت حركة التمييع المفضوحة لرفض ملاحقة هؤلاء أمام القضاء العدلي. فكانت أولى الخطوات التي صدرت عن السلطة السياسية، رفض وزير الداخلية محمد فهمي إعطاء الإذن لملاحقة إبراهيم. عقبه اجتماع لهيئة مكتب مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل لمناقشة إسقاط الحصانات عن النواب (الوزراء السابقين)، انتهى بتمييع كامل ومن دون جواب، مع التأكيد على وجوب محاكمة هؤلاء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. ليتمّ بعدها طرح فكرة تقديم عريضة نيابية هدفها الفعلي تضييع الوقت وتمرير الذكرى الأولى للمجزرة، حتى لا تضطّر هذه السلطة إلى القول علناً أنها ترفض ملاحقة أزلامها. وجاء بعدها اقتراح رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لرفع الحصانات عن كل المسؤولين في الدولة اللبنانية. وبالتزامن مع ذلك، خرج موقف أول عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله طلب فيه من المحقق العدلي إعلان خلاصات التحقيق التقني، وألحقه بموقف ثانٍ اعتبر فيه أنّ التحقيق مسيّس. لتنطلق بعدها المواقف العلنية لرفض إسقاط الحصانات، وجاء أبرزها على لسان زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، التي تحدّى القاضي البيطار علناً لكشف أين اختفت آلاف أطنان النيترات.
إضراب ورفع المسؤولية
ولا تتوقّف العرقلة عند هذا الحدّ، إذ تذرّع محامو المدعى عليهم لشهرين بحجة الالتزام بإضراب نقابة المحامين لعدم حضور الاستجوابات. وبعد تأكيد نقيب المحامين مراراً على أنه يعطي الاستثناءات اللازمة للمحامين في ملف المرفأ، انفضح هؤلاء. فتقدّم الوكلاء القانونيون للمدعى عليهم بدفوع شكلية أو استمهلوا لتقديمها. فمرّروا شهرين بالكمال والتمام، ويحاولون كسب المزيد من الوقت من خلال هذه الدفوع. واللافت أنّ جميع المسؤولين المدعى عليهم، سياسيين وأمنيين، يرفعون المسؤولية عن أنفسهم وبحجج مختلفة. منهم من يقول حيناً إنه لم يُبلّغ بالنيترات، وهو على رأس أكبر مؤسسة عسكرية في البلد. منهم من يقول إنه لا صلاحية له. منهم من يشير إلى أنه وجّه الكتب والمراسلات. ومنهم من يؤكد أنه أبلغ رؤسائه. وكل هذا يحيل اللبنانيين إلى واقع أنّ لا أحد مسؤولاً في البلد، وأنّ المناصب الموجودة في الدولة اللبنانية هي إما للوجاهة أو للحصول على المغانم.
والأسئلة المفتوحة
نصب فرنجية للقاضي البيطار كميناً محكماً. فالمقصود بهذا التحدي العلني إما إظهار البيطار بأن لا خلاصات أو أجوبة لديه، أو أنّ أجوبته تضعه على جبهة نارية بوجه طرف سياسي متّهم مراراً وتكراراً بتهريب النيترات والتعامل به على مستوى العالم. من الواضح أنّ السلطة السياسية لن تسمح بمحاكمة أزلامها. ومن الأكيد أنه ليس من المنطقي أن تحاكم نفسها. لكن في ملف انفجار مرفأ بيروت، سلّة كبيرة من التساؤلات والأسئلة المفتوحة، التي ربما يمتلك القاضي طارق البيطار أجوبة عليها. ومنها:
لماذا لم يبلّغ جهاز الجمارك المسؤولين الأمنيين والسياسيين بوجود نيترات الأمونيوم لدى دخول الباخرة روسوس إلى مرفأ بيروت؟
لماذا تمّت الإشارة إلى أنّ أطنان نيترات الأمونيوم مضرّة بالبيئة وليست خطرة وأشبه بقنبلة موقوتة؟
لماذا تم تفريغ شحنة النيترات والإعلان عنها بعد أسابيع، وبعد ترك آلاف الأطنان على الرصيف رقم 11 وفي الهواء الطلق؟
هل تم تهريب النيترات خلال هذه الأسابيع وقبل تخزينها في العنبر رقم 12؟ وهل يتّسع أساساً هذا العنبر لكل كميّة النيترات الأصلية، أي 2750 طناً؟
لماذا لم يكن في العنبر رقم 12 أي كاميرات، وأي أجهزة لإطفاء الحرائق، ولماذا لم تلتقط أي من الكاميرات الموجودة محيط العنبر المذكور؟
لماذا لم يطرح هذا الملف على جدول أعمال مجلس الوزراء وعلى جدول أعمال المجلس الأعلى للدفاع؟
لماذا لم تتمّ إعادة تصدير الشحنة أو معالجتها وفق الأساليب المعتمدة من خلال تذويبها بالماء؟
لماذ لم يتم نقلها إلى مكان غير مأهول وتخزينها بعيداً عن العاصمة في أي من الجرود الشاسعة؟
لماذا لم يبلّغ قائد الجيش الحالي، جوزيف عون، بملف النيترات؟ لماذا لم يأتِ جهاز الجمارك على ذكر النيترات في أي من المراسلات التي تمّت مع قيادة الجيش الحالية؟ وهل ذلك بناءً على تقصير أو نيّة مبيّتة من بعض ضباط المؤسسة العسكرية أيضاً؟
لماذا ألغى رئيس الحكومة المستقيلة، حسان دياب، زيارته إلى مرفأ بيروت بعد علمه بوجود النيترات؟
لماذ لم يتحرّك رئيس الجمهورية، ميشال عون، وبناءً على خبرته العسكرية أيضاً لمعالجة هذا الملف؟
لماذا كل هذه العرقلة المستمرة والمتعمدّة والمفوضحة للتحقيقات؟
وفي الملف، العديد من الأسئلة الأخرى المتعلّقة بشحنة النيترات، وبدور رجال الأعمال السوريين فيها من خلال شركة سافارو:
لماذا ترفض حكومات عديدة تسليم مدعى عليهم في الملف، بدءاً من مالك السفينة روسوس وقبطانها وأصحاب شحنة النيترات؟
لماذا يرفض رجلا الأعمال السوريان مدلل خوري وجورج حسواني إعطاء إفادتهما في الملف؟
لماذا لم يزوّد لبنان إلى اليوم بأي صور جويّة لمرفأ بيروت يوم 4 آب؟
هل كان لبنان فعلياً الوجهة النهائية لشحنة النيترات بهدف تزويد النظام السوري وميليشياته وحلفائه بهذه المواد؟أسئلة كثيرة وأجوبة مفقودة، مجتزأة، لكن لواقع أكيد: بغض النظر عن النظريات والمؤامرات، الدولة اللبنانية متمثّلة برؤساء وضباط وأحزاب قتلت اللبنانيين يوم 4 آب، ومسؤولة عن كل ما حصل.