“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
أخيراً أُنجزت الحكومة بقطع النفس. الثمن كان غالياً سواء على صعيد الأزمة ومتفرّعاتها من دولار وغير ذلك، أو على صعيد الملفات ذات الأولوية الداهمة. في الواقع، عملية الإلهاء التي خيضت على مدى شهور طويلة كان لها أثر بالغ. الكثير من الملفات ذهبت ضحية “التأليف المديد”، ولعلّ أكثرها أهمية، ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.
منذ مدّة اندثرَ أي ذكر لملف الترسيم، كأن ثمة أحدٌ ما يتعمّد إخراج الملف من التداول، أو أنه عمّم “أمر عمليات” يهدف إلى تطويقه. ثمة من بين المتابعين، من يعتقد أن هناك “تمييعاً” مقصوداً لمسار الترسيم، تقف خلفه جهات متعددة / متباعدة سياسياً وتجمعها المصلحة من وراء إعدامه على الشكل الذي يحدث راهناً. دعك من الإملاءات والشروط الأميركية وعدم التسرّع الإسرائيلي، وهي أسباب ظاهرية تحول دون استئناف المسار، لكن لا يجب إشاحة النظر عن عوامل داخلية لا تقلّ أهمية أو تأثيراً: عدم رغبة أطراف محددين بالوصول إلى استنتاجات وخلاصات أقلّها خلال عهد ميشال عون، وآخرون يلتزمون الموقف الأميركي، ويمارسون مختلف أنواع الضغط في الداخل لتشتيت المعنيين بالملف، وأحياناً محاولة إدخالهم في زواريب تقنية – نقاشية. وفي هذا السياق تُرصد حركة مريبة لطرف “دخيل” على الملف، يتردد في مجالس سياسية بأنه أتمّ التحضيرات لإطلاق حملة ما تستهدف الملف والجهات التي تشتغل فيه.
بتاريخ 27 آب الماضي، دشّنت قيادة الجيش محاولةً لإعادة ملف الترسيم إلى الضوء مجدداً، عبر إعادة طرح إدخال تعديلات على المرسوم رقم 6433 وهذه المرة لم ينحصر طلب إدخال تعديلات على الشقّ المتعلق بالخط رقم 23 أو نقله إلى الخط 29، بل اشتملت على طلبات عدة. بعثت قيادة الجيش إلى وزارة الدفاع إقتراحاً حمل الرقم 8270 موضوعه سحب المرسوم 6433/2011 المودع لدى الأمم المتحدة وتصحيحه. وقد تضمّن طلب قيادة الجيش الإشارة إلى أخطاء تقنية عدة شابت المرسوم المودع، من بينها مخالفات لناحية الحدود البحرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة والجنوبية الغربية مع قبرص، إذ يتبيّن أن هذه الحدود يشوبها العديد من الأخطاء التقنية والقانونية القاتلة بالاضافة إلى خطأ يعتري الخط رقم 23 لكونه لا ينطلق من نقطة رأس الناقورة المحددة بموجب إتفاقية بوليه – نيوكامب الموقعة عام 1923 ولعدم اتباعه أي طريقة تقنية معتمدة عالمياً، بالاضافة إلى أخطاء تقنية أخرى تتعلق بإعطاء احداثيات خاطئة لبعض النقاط، ولعل الملفت أن الدولة اعتمدت إيداع خريطة دوّن عليها إسم إسرائيل مكان فلسطين وهو ما لا يعكس وجهة نظر الدولة التي لا تعترف بوجود شيء اسمه “إسرائيل”، إضافة الى أن المرسوم لم يُعرض على مجلس شورى الدولة حينها (في العام 2011) وفقاً للأصول المتبعة في إصدار المراسيم.
إذاً، عبر طلب/الإقتراح إلى وزارة الدفاع، وكان ظنّ المعنيين بالملف أن وزيرة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال (حينها) زينة عكر، وبصفتها ايضاً وزيرةً للخارجية بالوكالة، ستتولى سحب المرسوم تمهيداً لتعديله لما تضمّنه من مغالطات، لكنها وبدلاً من ذلك، راسلت وزارة العدل بتاريخ 26 تموز 2021 طالبةً من هيئة التشريع والإستشارات بكتاب حمل الرقم 3626، إبداء الرأي حول سحب المرسوم 6433/2011 ، وطلب إيضاحات عمّا إذا كانت هناك آلية قانونية تجيز سحب المرسوم أعلاه. وبدا لافتاً أن الوزيرة شديدة الحساسية تجاه ما وصفت بـ”التزامات لبنان” لناحية تضمين إشارتها جملةً ورد فيها: “ترعى الإلتزامات الإقليمية والدولية التي نجمت عنه”، وهي جملة تشير بوضوح إلى “التزامات” مقطوعة يجب أن تكون محل تدقيق لأن الجهة الإقليمية ووسط إشارة إلى احتمال أن يكون الجانب الاسرائيلي هو المقصود، هو أمر خطير، وإن لناحية الإشارة الدولية والتي يُقصد بها عملياً الطرف الأميركي الذي يُصنّف راعياً للمفاوضات ويتصرّف الآن على أساس أنه طرف.
وهنا تجدر الاشارة إلى أن المادة الثالثة من المرسوم 6433 سمحت بتعديله، إضافة الى أن العدو الاسرائيلي لم يعترف بهذا الترسيم لا بل قام واعتدى على المياه اللبنانية بترسيمه الخط رقم 1 داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، وبالتالي لا يوجد أى التزامات من قبل لبنان تجاه الاخرين. لا بل أكثر من ذلك، إن النظام الداخلي للأمم المتحدة يسمح بسحب أى وثيقة تم ايداعها من قبل دولة ما من جانب واحد، وهذا ينطبق على المرسوم 6433.
إلى حينه، مرّ على بعث الطلب إلى هيئة التشريع والإستشارات أكثر من اسبوع، وعلى الأعمّ الأغلب سيأخذ الطلب وقته قبل أن يعود مذيّلاً بعبارات “تقنية – قانونية” يفترض أن تنسف أي إمكانية لسحب المرسوم لاحقاً، تماماً كما حدث في موضوع كتاب إبداء الرأي الذي بُعث للهيئة نفسها عن طريق وزارة الدفاع وحمل الرقم 87/2021 تاريخ 17/2/2021، وكانت النتيجة أن خلُص إلى صلاحية مجلس الوزراء في إبداء الرأي التقني بالتعديلات، فأسقط المشروع حينها.
عملياً، لم يعد من مجال للشك حول وجود أطراف لبنانية لا يمكن إدراجها ضمن خانة تسهيل أعمال الترسيم أو تمكين الوفد اللبناني العسكري – التقني من تعزيز أوراقه كي يدفع بالمفاوضات غير المباشرة المتوقفة إلى الحياة من جديد، وإخراجه من نطاق “الحصار” الذي تفرضه الولايات المتحدة وإسرائيل بشراكة “غير مباشرة” مع أطراف الداخل عملاً بمبدأ “سلق الوفد” لدفعه نحو تقديم تنازلات تعجز عن تأمينها الأطراف السياسية الداخلية مجتمعة.
وفي الحديث عن الحصار، كان سبق لمجموعة محامين أن تقدموا أمام القضاء منذ أكثر من 4 أشهر بإخبار حول موضوع المرسوم رقم 6433 وعدم قانونيته لناحية تضمّنه أخطاءً تقنية وقانونية قاتلة ولناحية تجاهل تقرير بريطاني لصالح لبنان عمداً قبل صدور المرسوم. القضاء الذي كان يوجب عليه بتّ المسألة وإنهاء الجدل القانوني وإعادة الترسيم إلى نصابه الصحيح، تجاهل كل ذلك، إذ تشير معلومات “ليبانون ديبايت” إلى أن المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، وضع الإقتراح في الدرج وأغلق عليه، وتصرف معه وفق موجبات الأطراف السياسية الأخرى تماماً وكأنه يعتبر أن التفريط بخُمس مساحة لبنان في البحر والعائمة على محيط من النفط والغاز مسألة فيها وجهة نظر!