تنشر “المدن” (على مدى يومين) هذا البحث بالتزامن مع مركز عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي أعده الباحث ناصر ياسين، أستاذ السياسات ومدير معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة بالوكالة، الجامعة الأميركيّة في بيروت. وشارك فيه عدد من الباحثين. هنا الجزء الأول:
مقدمة
أقرّت الحكومة اللبنانية في اجتماعها في 30 نيسان الماضي خطة “التعافي المالي”، وتبع ذلك اجتماع بعد أيام في المقرّ الرئاسي في بعبدا مع رؤساء كتل نيابية لعرضها ومناقشتها.
والخطة تحمل مُسمَّيات مختلفة: فهي تارة برنامج للتعافي المالي، وطورًا خطة إصلاحية وإنقاذية، وأحيانًا اقتصادية. لكن بعيدًا عن التسميات وعن بعض الاختلافات في الأرقام بين النسخة الأصلية باللغة الانكليزية وتلك المترجمة للعربية، تحتوي الخطة على تدقيق دفتري للخسائر المالية الحاصلة في لبنان منذ عقود، وهذا التشخيص هو الأول من نوعه منذ تدهور الوضع النقدي والمالي.
تطرح الخطة الكثير من التساؤلات حول فرضياتها العديدة وكيفية احتساب أرقامها وتستولد هواجس محقّة من حيث توجهاتها ومآلاتها. لذلك نقدم في هذا التعليق الجماعي من قبل باحثين وزملاء وشركاء لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت ملاحظات واقتراحات تتناول جوانبها الأساسية بغرض المساهمة في النقاش العلمي والهادئ حول طرق مقاربة أزمة لبنان الاقتصادية والمالية.
بداية في الشكل والتأطير العام، تنطلق الخطة من تسليم شبه كامل لوصفات التكيّف الهيكلي التي تفتي بها مؤسسات التمويل الدولية حتى قبيل البدء بالمفاوضات مع ممثليها، وبعض هذه الإصلاحات مطلوب حكمًا، لكن ما تلتمسه الخطة لا يستدعي الاحتفالية ولا تستوجب نعتها بالتاريخية، والبلد يسير نحو إفلاس عسير ومسار ممكن أن يحرمه من سيادته الاقتصادية.ويطرح احتساب بعض الارقام تساؤلات عن جديتها كتقديرها أن كلفة “النزوح” السوري إلى لبنان توازي 25 مليار دولار وهو رقم غير مؤكد يدمج بين كلفة تأثير الأزمة السورية على السياحة والتجارة وبين كلفة استضافة اللاجئين.
كما غاب عن واضعي الخطة اتِّبَاع تشاركية مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، فلم يحصل أي تشاور جدّي مع ممثلي الفئات المهنية والاقتصادية أو مع المجتمعين المدني والسياسي باستثناء بعض اللقاءات الشكلية التي تظهر وكأنها لإرضاء المانحين، لا للانطلاق بنقاش حقيقي مع قوى المجتمع في لحظة مصيرية من تاريخ لبنان وبعد ثورة شعبية واسعة.
الإصلاحات المقترحة والإطار الزمني
جمال صغير، أستاذ لممارسات التنمية في جامعة ماغيل وزميل باحث متميز في مجال الاقتصاد والتنمية في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة، الجامعة الأميركيّة في بيروت:
تقترح الخطة برنامجًا ماليًا ونقديًا شاملاً وطموحًا، لكنّها تتضمّن بعض التدابير الصعبة، ولا تركّز بشكل كافٍ على الإصلاحات القطاعية. فيقدّم البرنامج تشخيصًا جيّدًا، لا بل أكثر من ذلك، خلفية تقييمية لبدء النقاشات مع صندوق النقد الدولي وشركاء التنمية. ويعرض لائحة طويلة من النوايا والإجراءات، ولكنّه يفتقر إلى قائمة واضحة بالأولويات، وخريطة طريق واقعية وإطار زمني لتنفيذ تلك الإصلاحات، بالإضافة إلى الإجراءات المُسبقة التي تطلبها، عادة، المؤسّسات المالية الدولية.
فضلاً عن ذلك، تضع خطّة الحكومة توقّعات ضخمة حول الدعم المالي الدولي المتوقع الحصول عليه عبر صندوق النقد الدولي وبرنامج “سيدر”، وتقدّره بنحو 10 مليارات دولار أميركي تعتقد أنها ستكون مُتاحة بسهولة خلال الأشهر القليلة المقبلة. في حين نعلم جميعًا أن قدرة البلد على تحمّل الديون هي واحدة من المسائل الرئيسية التي توجّه عمل صندوق النقد الدولي وشركاء التنمية.
إلى ذلك، تبدو اقتراحات ترشيد النفقات غير كافية. من جهة أخرى، تعدُّ الإيرادات المتوقّع توليدها نتيجة تنفيذ برنامج الإصلاح طموحة للغاية وغير مؤكّدة. كنّا نتوقّع المزيد من التفاصيل والإجراءات المُتعلّقة ببرنامج الإصلاحات القطاعية، ولا سيّما الطاقة والمرفأ والاتصالات.
نذكر على سبيل المثال الأهداف غير الواقعية لقطاع الكهرباء على المدى القصير، خصوصًا أن الدعم المُنتظم الذي حصل عليه القطاع، على مدى السنوات العشرين الماضية، شكّل نحو 40% من الديون المتراكمة، أو ما يوازي نحو ملياري دولار أميركي سنويًا. في حين يفترض أن تحدّد إصلاحات هذا القطاع، ولا سيّما إعادة هيكلة مؤسّسة كهرباء لبنان، بشكل مفصّل.
باختصار، يتضمن البرنامج قائمة طويلة من المشاريع المرجوة، وإنمّا غير المُنظّمة بطريقة مناسبة حيث لا تظهر الأولويات والتسلسل وفقًا لخارطة طريق واضحة بمقاييس مناسبة وجدول زمني يرصد التقدّم ويواكبه تصوّر للمساءلة.
السياسة النقدية وسعر الصرف
محمد فاعور، باحث في التمويل والمصارف لدى كلية دبلن الجامعية:
وفقًا للخطّة، ستنتقل سياسة سعر الصرف من ربط العملة وتثبيتها إلى سعر صرف أكثر مرونة (التعويم الموجّه أو نظام الربط المُتحرّك لأسعار الصرف)، على أن يتمّ تخفيض قيمة العملة المحلّية إلى 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في العام 2020، يليه تخفيض تدريجي بنسبة 5% سنويًا خلال السنوات الأربع التالية، باعتبار أن ذلك سيساعد في السيطرة على ميزان المدفوعات في لبنان وتحسين القدرة التنافسية وتعزيز النمو الاقتصادي.
لا شكّ أن كلّ هذه الحجج صحيحة، لكن الخطّة تفوتها نقطة في بالغ الأهمية وهي أن غالبية قروض العملاء مقوّمة بالدولار الأميركي (66% من مجمل القروض وفقًا لأرقام آذار/مارس 2020). من هنا، من المُحتمل أن يؤدّي تخفيض قيمة العملة إلى ارتفاع نسبة القروض المتعثّرة بشكل كبير، نظرًا إلى كون مداخيل 70% من السكّان مقوّمة بالليرة اللبنانية، وبالتالي سيعاني المدينون أصحاب الرواتب بالليرة لتسديد قروضهم بالدولار الأميركي.
بالنسبة إلى المدينين من القطاع الخاص، يمكن أن يؤدّي تحفيض قيمة العملة إلى موجة كبيرة من الإفلاسات لأن الشركات التي تحصّل إيراداتها بالليرة اللبنانية ستعاني لتأمين قروضها بالدولار الأميركي.
وينسحب الأمر على المدينين الأفراد الذين يشهدون تراجعًا في قوّتهم الشرائية، وبالتالي ستكون العواقب الاجتماعية الاقتصادية عليهم واضحة. أمّا بالنسبة إلى المصارف، سيؤدّي ارتفاع القروض المتعثرة إلى تفاقم خسائرها ورفع كلفة إعادة الهيكلة. لذلك من الضروري النظر في تحويل القروض المقوّمة بالدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية قبل تخفيض قيمة العملة، وذلك لتحقيق مصلحة كلّ من المدينين والدائنين.
أيضًا تتناول الخطّة الحاجة المتأخّرة لتشريع ضوابط رأس المال على أن يتمّ رفعها في العام 2021، وهو أمر مفرط في التفاؤل نظرًا إلى حجم الأزمة. إلى ذلك، تتوقّع الخطّة خروج ودائع بقيمة 9 مليارات دولار بعد رفع ضوابط رأس المال، وهو ما يعادل الحدّ الأقصى لقيمة القرض المتوقّع أن يحصل عليه لبنان من صندوق النقد الدولي.
لا شكّ أن قيمة هذه التدفّقات الخارجة ستكون كبيرة جدًّا بالمقارنة مع حجم أزمة ميزان المدفوعات. وبالتالي، يجب أن تبقى ضوابط رأس المال لبضع سنوات حتى يتمّ تنقية القطاع المصرفي بالكامل، ونعود إلى مسار الانتعاش المستدام.
خفض الإنفاق
ليا بو خاطر، أستاذة جامعية في التنمية الاقتصادية وباحثة في مؤسسة البحوث والاستشارات:
تتغاضى الخطّة عن الأثر الاجتماعي للأزمة الاقتصادية، وتهدف إلى تحقيق تعافٍ مالي سريع. من هنا، يصبح تقليص كلفة أجور القطاع العام، من 19% إلى 9% من مجمل الناتج المحلّي بحلول العام 2024، أمراً أساسياً في الخطة. في هذا السياق أطرح ثلاث قضايا من المهم الاضاءة عليها:
أولاً: لا شكّ أن في الإدارة العامة موظفين مؤهلين وأكفاء، لكن القطاع العام منتفخ بسبب العلاقة الزبائنية السائدة بين الزعماء السياسيين وأتباعهم، والتي تعدّ أداة ضرورية للحفاظ على متانة النظام الطائفي القاهر. وبناءً عليه، يصعُب توقّع قدرة الطبقة السياسية الحالية على تقليص قطاع يحافظ على وجودها، وهو ما يجعل تطبيق هذه الإصلاحات أمرًا مشكوكًا فيه.
ثانيًا: بينما تستهدف إعادة هيكلة القطاع العام فاتورة رواتب وأجور القوى الأمنية والعسكرية المُضخّمة، والمشكوك بالحاجة إليها أساسًا، إلّا أن الخطّة لا تتعامل مع خصوصية موظّفي القطاع العام ولا سيّما المعلمين، الذين تشكّل أجورهم المخصصات الحالية التي يحصلون عليها، الحوافز الرئيسية لجذب الموارد البشرية المؤهّلة إلى القطاع العام. من هنا، ستؤدّي الحوافز الضئيلة إلى استنزاف جميع الموارد بشكل جذري، وبدلاً من ذلك، ستستبدل بباحثين عن عمل غير مؤهّلين، غالبًا ما تكون فرصهم محدودة في القطاع الخاص.
ثالثًا: يشكل القطاع العام أحد أهم المسارات التي تقود إلى الارتقاء الاجتماعي في لبنان، وعليه سيؤدي ترشيق القطاع العام إلى الحد بشكل كبير من هذا الارتقاء في المجتمع اللبناني. ولا يبدو أن الخطّة تقدّم سياسات أو إجراءات واضحة لكيفية تعويض فقدان وظائف آلاف اللبنانيين، إذ لم تتمّ الإشارة إلى تأمين أي حماية اجتماعية ولو هامشية لهؤلاء الموظفين المزمع صرفهم من الخدمة.
زيادة الإيرادات
فيفيان عقيقي، باحثة وصحافية اقتصادية:
تقترح الخطة سياسات تقشّفية قاسية، تهدف من خلالها إلى عصر النفقات وتحسين الإيرادات لتخفيض عجز الموازنة وصولاً إلى تحقيق فائض أوّلي (الفارق بين الإيرادات والنفقات قبل دفع خدمة الدَّيْن) بنسبة 1.6% من الناتج المحلّي بحلول العام 2024، وبالتالي استخدام هذا الفائض لاستئناف تسديد الديون والفوائد عليها.
بمعزل عن مدى دقّة هذه الأرقام التي تغيّرت بين النسخة المُسرّبة بداية والنسخة الأخيرة التي أقرّت، وعدم وضوح المنهجية التي بُنيت عليها التقديرات، ومدى واقعية تحقّقها نتيجة الإنهيار الشامل الذي سيطال مداخيل الدولة أيضًا، تأتي هذه المقاربة محاسبية بامتياز ولا تتعامل مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإفلاس النظام السياسي الاقتصادي.
تسعى الحكومة إلى زيادة الإيرادات عبر توسيع القاعدة الضريبية خلال المرحلة الأولى، من خلال تحسين الجباية الجمركية والضريبية، ومكافحة التهرّب الضريبي والتهريب، وإلغاء الإعفاءات والحوافز الضريبية وهي إجراءات قد تخضع للتجاذبات السياسية، وربّما يكون مصيرها شبيهًا بقانون “الكابيتل كونترول” الذي لم يقرّ.
على أن تتبعها في المرحلة الثانية زيادة المعدّلات الضريبية التي تستهدف بشكل رئيس ضرائب الدخل، عبر زيادة معدّل الضريبة على أرباح الشركات والفوائد والأسهم والأجور المرتفعة، وفرض رسوم على الأنشطة الملوّثة للبيئة ولا سيّما المقالع والكسّارات، صحيح أن هذه الإجراءات لا تزيد العبء الضريبي على المداخيل الدنيا والاستهلاك الأساسي، ولكنها لا تمسّ أيضًا بهيكلية النظام الضريبي بل تعمد إلى ترقيعه.
الضريبة ليست هدفًا بذاتها إنّما أداة تستخدمها الحكومات للحصول على موارد وتحقيق أهداف تخدم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية. في لبنان، يعدُّ النظام اللبناني غير عادل بطبيعته، وأداة ساهمت طول سنوات في تحويل الثروة من المجتمع إلى القلّة، إذ يرتكز بشكل رئيس على الضرائب غير المباشرة ويعفي الثروة والأرباح من تحمّل الأكلاف المناسبة. في هذا السياق، تخلّت الخطّة عن الضريبة الموحّدة لكلّ مصادر الدخل والتصاعدية، التي وردت في المسوّدة الأولى وتعدّ إصلاحًا أساسيًا لأي نظام ضريبي،
واستبدلتها بزيادة المعدّلات على أنواع الدخل المختلفة، فيما لم تبحث بأي إجراءات أخرى تحدّ من التفاوتات الاجتماعية وانعدام المساواة. أيضاً يتميّز هذا النظام بكونه غير هادف ولا يتدخّل لتأمين الحقوق الاجتماعية من طبابة مجّانية وسكن ونقل عام، أو تصحيح التشوّهات الاقتصادية وتوجيهها نحو أهداف تسمح بزيادة النموّ والإنتاجية والتنافسية، وهو ما لم تتطرّق له الخطّة أيضًا على الرغم من كونه مدخلاً أساسيًا لحماية المجتمع في ظلّ الأزمة القائمة وتحفيز الاقتصاد الراكد والنهوض به.
بإيجاز تقول لنا “الورقة الحكومية” بأن هناك خسائر مُترتبة وعجوزات متراكمة ناجمة عن إفلاس النظام السياسي الاقتصادي القائم منذ أكثر من ربع قرن، وهي تعمد إلى توزيع أكلافها، وتدعونا إلى تحمّل المزيد من الآلام خلال السنوات الخمس المقبلة لنخرج من الأزمة، من دون أن يكون واضحاً إلى أي دولة سنخرج وأي مجتمع وأي اقتصاد.
إنشاء شركة عامّة لإدارة الأصول
ألبير كوستانيان، خبير اقتصادي وزميل باحث في السياسات العامة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت:
تبرز الخطّة أبعد من عنوانها المالي، فتظهر كبيان سياسي يسعى إلى إقناع أكبر عدد مُمكن من أصحاب المصلحة في الداخل والخارج، إذ تتضمّن عددًا لا يحصى من “الإعلانات” الجيّدة وكذلك السيئة منها لتحصيل كلّ ما يمكن الحصول عليه، بما يقوِّض تماسكها على الرغم من التشخيص الصلب المُقدّم واقتراحات الإصلاح المطروحة.
وشركة إدارة الأصول العامّة المقترحة ضمن الخطّة هي إحدى هذه التدابير، ويبدو أنها أدرِجت غبّ الطلب وتحتاج إلى الكثير من التوضيح. يُطمح من خلال هذه الشركة إلى تعويض الدين المتبقي على المصرف المركزي لصالح المصارف التجارية بعد إعادة الهيكلة، عبر استخدام الإيرادات التي ستنتج عن إعادة هيكلة الأصول المملوكة من الحكومة. هذا الطموح مشكوك فيه، في أحسن الأحوال، لأنه قد يؤدّي إلى نقل الثروة من الأكثرية إلى القلّة. حيث انه سيتمّ تمويل الأصول المملوكة من الدولة إمّا من دافعي الضرائب والمشتركين، في حالة الكهرباء وشركتي الخلوي على سبيل المثال، أو من المستخدمين مثل شركة الميديل إيست أو كازينو لبنان أو الريجي.
وبما أن خسائر المصارف التجارية سيتحمّلها المساهمون والمودعون أصحاب الثروات العالية وفقًا لخطّة الإصلاح، فإن أي استخدام لعائدات الأصول المملوكة من الدولة للتخفيف من خسائر القطاع المصرفي يمكن اعتبارها بمثابة دعم غير مباشر للفئات “الأغنى” من قبل قاعدة واسعة من دافعي الضرائب والمكلفين.
وتبدو مهمّة الشركة المقترحة ملتبسة إذ تنصّ الورقة الإصلاحية: “ستُكلف الشركة العامّة لإدارة الأصول بإعادة هيكلة الشركات العامّة الموجودة في محفظتها”. هذا الأمر ليس كافيًا لتحديد استراتيجية الشركة العامّة لإدارة الأصول التي سيتم ائتمانها على أصول الأفراد إذ يمكن أن يكون لخطّة إعادة الهيكلة أهدافًا متضاربة تخدم أغراضًا مختلفة. قد تسعى إلى تحقيق الحدّ الأقصى من الدخل والتدفّق النقدي للشركات المُدارة لتلبية التحويلات الهامّة إلى مصرف لبنان على حساب المستخدمين والمواطنين على سبيل المثال، في حين تسعى الكيانات العامّة إلى توفير سلع عامّة فعّالة للناس بأسعار معقولة.
يجب أيضًا مراعاة ديناميات واحتياجات المؤسسات المختلفة وخصوصًا لناحية إعادة الهيكلة. إذ لا يمكن تطبيق طرق الإدارة نفسها على كل المؤسسات وعليه يمكن خصخصة بعضها على المديين القريب والمتوسّط، مثل شركتي الخلوي، فيما يقدّر الإبقاء على الملكية العامّة لمؤسّسات أخرى كمرافق النقل.
إلى ذلك، تشكّل الخيارات بين إعادة هيكلة الأصول العامّة وخصخصتها مصدر قلق جدّي. عمليًا، لا يشمل التفويض الممنوح للشركة المقترحة القيام بالخصخصة، كما أنه يحدّد فترة 10 سنوات لإعادة الهيكلة والانتفاع من الأصول. لكن هل سيحول ذلك من دون القيام بأي خصخصة خلال هذه الفترة؟ إذا كانت الإجابة نعم، فإن ذلك سيحدّ من خيارات الحكومات المقبلة.
وإن لم يكن الأمر كذلك، فقد يعني أن شركة إدارة الأصول العامّة قد تخاطر بضمّ أصول أقل جاذبية مع مرور الوقت، بافتراض أنه سيتم خصخصة الأصول الأخرى، في تناقض مع هدفها الأولي المتمثّل بتخفيف أعباء المصرف المركزي الناجمة عن خسائره. علاوة على ذلك، ومن منظور مالي خالص، تستغرق مشاريع إعادة الهيكلة بعض الوقت لتحقيق نتائج، وتتطلب استثمارات كبيرة في مرحلتها الأولية. نتيجة لذلك، يمكن أن يكون الوضع النقدي للشركة سلبيًا في السنوات الأولى بعد إنشائها، وهو ما يطرح المزيد من الشكوك حول الجدوى منها.
على صعيد الحوكمة، تقدّم الخطّة الإصلاحية كلمات طنّانة مثل “الأفضل ضمن فئتها” و”الخبرة الدولية” و”الدروس المستفادة”. لكن ذلك لا يكفي للتخلّص من الشكوك المشروعة حول كيفية إدارة هذا الكيان الذي سيكون رئيسيًا في المشهدين السياسي والاقتصادي اللبنانيين. ان حصر الصلاحيات في ظل النظام الطائفي الزبائني اللبناني ينشئ مكمن واحد للفشل بدل توزيع المخاطر عبر اللامركزية.
“من المفهوم أن الشركات المملوكة من الدولة ستحافظ على استقلاليتها طوال العملية”، هذا ما يرد في الجملة الأخيرة من الفقرة المخصّصة لشركة إدارة الأصول العامّة ضمن الورقة الإصلاحية. وهو ما يتعارض مع جميع “الدروس المستفادة” من “الخبرات الدولية” “الأفضل ضمن فئتها”، التي تتطلّب سيطرة كاملة ومباشرة لفريق إعادة هيكلة على الكيان الذي تتم إعادة هيكلته، وهذا يثير المزيد من الشكوك حول جدّية الاقتراح بأكمله.
المدن