لم يَكن “اللقاء الوطني المالي” طاولة حوار تقليدية يحتضنها القصر الجمهوري، لا بالتوقيت ولا بالمضمون ولا حتى بالمقاربات. بدا طيلة أيّام وكأنّ غرفة عمليات تدير محاولةً لتطويق العهد، أو على الأقل السعي إلى إظهاره فاقدًا للدور الوطني الذي تلعبه مؤسسة رئاسة الجمهورية.
مواقف عديدة خرجت لتعلن المقاطعة، البعض أعلنها سياسيًا والبعض الآخر بشكلٍ هزلي كوميدي لا يرتقي لمستوى الكوميديا اللبنانية لجهة حبكة النص ودقّة التصويب. عوامل عديدة ساهمت بنقل اللقاء من مادة جدليّة طرحها البعض لإفراغه من مضمونه، إلى نقاش فعلي وعلمي بعيد عن التناحر السياسي ولا يصب إلّا في مصلحة إنقاذ الإقتصاد والمواطن.
أوّل الأسبوع حطّ وليد جنبلاط في القصر الجمهوري، بعد أيّام على شنّه هجومًا على العهد ورموزه. نجحت حينها مساعي اللواء عباس ابراهيم، وايحاء عين التينة بضرورة ترطيب الأجواء، في دفع جنبلاط نحو التنازل نوعًا ما، تراجع عن موقفه السلبي السوداوي من الحكومة وتوقّفت حملات نوّابه على العهد.
وبعيدًا عن ما طلبه في القصر لجهة تعيين قائد الشرطة القضائية وأحد نوّاب حاكم مصرف لبنان، إلّا أن جنبلاط يعلم جيدّا أن زيارته لرئيس الجمهورية ليست سوى طعنًا بظهر حليفه سعد الحريري.
ترطيب الأجواء استكمل اليوم مع اعلان جنبلاط اعتذاره عن حضور اللقاء الوطني المالي لأسباب صحّية لا سياسية. حفظ ماء وجهه مع حليفه ولم ينخرط في محاولة تطويق العهد مجدّدًا.أمّا العامل الأهم فكان حضور سمير جعجع إلى قصر بعبدا.
جعجع الذي لطالما سعى لإبعاد الحريري عن باسيل وعون مطلقًا النار بغزارة على التسوية الرئاسية، حطّ اليوم في بعبدا لمناقشة الخطّة الحكومية الإقتصادية علميًا ونقطة بنقطة، تاركًا حليفه السابق يشاهد تفنيده للنقاط على منبر القصر من على شاشة التلفزيون.
كسرَ جعجع بحضوره محاولات التطويق، وسحب البساط من تحت سليمان فرنجية وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وربّما سامي الجميّل.
عقلانيّة جعجع يصفها مصدر متابع أنّه على قدر المرحلة، يعي من خلالها الرجل تمامًا حساسية وخطورة ما تمر به البلاد، فأراد لعب دور المعارضة الإيجابية عن تلك المعطّلة، فألزم نفسه بالحضور لإنتفاء الحجّة المنطقيّة عن الغياب، وأرسى فكرة وقوف رئاسة الجمهورية على مسافة واحدة من رؤساء الكتل، لمحاولة انقاذ البلاد وتطبيق الخطة الحكومية بعيدًا عن الكيديّة والعرقلات غير المجدية.
قد يكون جعجع الفارغ من أي وعود خارجية حقيقية حاليًا، ارتأى اعتماد تكتيك جديد غير تقليدي ولا يشبه فشل المراحل الماضية.مصدر سياسي رفيع يرى بأنّ مشهد بعبدا يوم أمّس وجّه ضربةً قاضيةً لمساعي السفيرة الأميركية في تفجير البلاد بوجه العهد وحزب الله، وتاليًا الحكومة.
يعتبر أنّ سماح دوائر القصر الجمهوري لرئيس حزب القوات التصريح بأريحية من على منبر القصر وأمام الصحافيين كان المسمار الأخير في نعش محاولات إعادة توحيد فريق الرابع عشر من آذار.
يرجّح أن يكون لما حصل تبعات على العلاقة المتأزّمة أصلًا بين الحريري وجعجع، وكذلك على العلاقة بين جنبلاط والحريري.قبل سنوات قاطعت معظم القوى السياسية قصر بعبدا، ورفعت سقف التحدّي لإسقاط الرئيس إميل لحّود قبل انتهاء ولايته وفشلت بذلك. اليوم، لم تنجح جهود تطويق العهد حتّى، بل حضر رأس حربة المواجهة مع ميشال عون تاريخيًا إلى طاولةٍ يرأسها جنرال القصر.
صفاء درويش – ليبانون ديبايت