ما ارتكبَه سعد الحريري بحقِّ نفسهِ خلال الأيامِ المنصرمة مؤلمٌ وغريب! أقلّ ما يُقال عن قرار مقاطعة الإجتماع المالي في بعبدا إنّه متهوّر. لقد عزلَ سعد الحريري نفسه بنفسِه قبل أن يُقدم أحدٌ من الآخرين على عزله، الآن لا يصحُّ إلقاء اللوم أو إتهام “العزل” على غيره سواء حلفاء كانوا أو خصوم… لقد كفّى بحقِّ نفسه ووفّى!
في الواقعِ، لقد جعلَ سعد الحريري بقراره الأخير من تياره طرفاً معزولاً حتّى من قِبل المعارضين المفترضين، بل إذا أردنا التعمّق أكثر لوجدنا أنه أقدم على عزل نفسه عن قرار دولي طالبه أن يدخل “ضمن المضمار”، ففضّل الوقوف على الرصيف والاكتفاء بالمشاهدة! من الواضح، أنّ ثَمة قراراً أميركياً – فرنسياً أسبغَ صفة المساعي الدبلوماسية الدولية يجري تطبيقه في الداخل على شكل إفتتاح “خط هدنة” بين الافرقاء كافة.
بدأ تحديداً في أعقاب البيان الأميركي الأخير الصادر عن السفارة في عوكر بعد أن “فلت ملق” الوضع المالي من اليد، أولاً من جراء معركة دياب – سلامة وثانياً خلال سريان مفعول الهجوم على المصارف.
هو البيان الذي أدّى، بدايةً إلى وأدِ مساعي دياب “التحررية” من سلامة ووضعه على الرف إلى حين أن يجري البتّ به في موعدٍ ما، ولاحقاً من خلال إفراغ الشارع من المتظاهرين الذي أتى كواحد من مفاعيل “البيان الأميركي”.
ولفرنسا دور واضح أيضاً، سفيرها المعتمد في بيروت نفّذ “إغارة” لافتة مؤخراً وعلى مراحل طالب خلالها المسؤولين بضرورة “كف يد” الاشتباك السياسي لتحصيل ما تيسّر من مساعدات.
قبل ذلك، كان قد وضع الرئيس سعد الحريري خلال إجتماعهما الثنائي بصورة التغييرات والتبدلات الحاصلة، ونصحه بضرورة “الصعود الى القطار” و “التعقل لأن الخسارة ثمينة”، لكنّ الحريري وبشكل مستغرب تجاهل كل ذلك، وفضّل تحميل السفير الفرنسي رسائل على شكل: “قولوا لدياب أن يتهذّب سياسياً، لأن أموره تدفع الشارع إلى الفجور”.لقد وجد الفرنسيون أن الحريري لا يقبل النصيحة وهو ماضٍ في عزل نفسه، تصرّفُه ينمُّ عن شخصنة واضحة.
المشكلة أنّ أحداً من هذا الكوكب لا قدرة له على إخراج سعد الحريري من بوتقة الشخصنة حبيسها منذ زمن. وبالنتيجة، سيخسر رغم أنه لا يقتنع أنه يخسر.الآخرون التقطوا الإشارات جيداً.
كان وليد جنبلاط أول المتعقّلين، رأى بوضوح وجود “صفاء ذهن أميركي” بعد الأخذ باقتراح العبور نحو صندوق النقد الدولي، لذا استغل أول مبادرة تقريبِ وجهاتِ نظرٍ مع قصر بعبدا ومضى إليها مُحتكماً إلى “الجو الدولي” الميّال صوب الهدوء، علماً أنه تجاهل في السابق أكثر من مبادرة مشابهة.
يعلم “البيك” ان التهدئة مع قصر بعبدا ستدخله في “ربط نزاع” مفروض مع التيار الوطني الحر.حسان دياب لم يخرج عن هذا الجو. قرّر ترتيب أوراقه مع عين التينة، هو يعلم في داخله أن لا غنى عن الرئيس بري سياسياً.
الرجل “زنبرك وصمام أمان سياسي”، ومعارضته تُنتج وتُعرقل بخلاف معارضة الحريري “الصبيانية”، لذا قرّر تسيير أعماله مع عين التينة بمعيّةٍ من حزب الله الذي اشتغل على خط تذويب الجفاء الناتج عن “جلسة الأونيسكو”.
كما مع حسان كذلك مع جبران، التزم الحزب “خفض التصعيد” بين باسيل والرئيس برِّي متولياً ترتيب الأوراق بينهما. أخذ باسيل النصيحة وزار عين التينة وفي ذهنه ما يتردد فرنسياً وما سمعه أميركياً. بالنسبة إلى سمير جعجع، لم يَجد مصلحةً بأن يقف على الرصيف أو يضع نفسه على الرف.
بعد جملة التطورات التي حصلت قرّر التوجه نحو بعبدا “بخطابه المعارض”، وقد قدّر أن مصلحته تأتي في تأمين موقعه ضمن السلطة لا الابتعاد عنها، ومتى قرّر وليد جنبلاط أن لا نيّة في تحالفات ثنائية أو ثلاثية إذاً فالرهان على عقد جبهة “أمر جنوني” سيّما وأن قضية “إنعدام الثقة” مع الحريري ما برحت مكانها. سمير جعجع ليس أسيرَ جنونه كما يفعل الحريري الآن، حكّم عقله وذهب إلى بعبدا. بقيَ الحريري إذاً خارج القافلة.
يُقال أنّ البعض ينصحهُ استلحاق نفسه عبر إنتاج “نسخة تصالحية” مع بعبدا لا تأتي بنودها على مقاييس التسوية الرئاسية التي سقطت مع ذلك تُدخله في “ربطِ نزاعٍ مع باسيل”، لكنّ الحريري ولغاية الآن ما زال تحت تأثير الصدمة من مشهدية بعبدا و “نشوة” الخروج من التسوية التي أطلقت لسانه على نحوٍ فجّر عبرها كل “كبته”.
القرارُ الجريء الآن فتح مرحلة جديدة من مراحل التهدئة السياسية، المتوقع الآن بحكم الأمر الواقع والأزمات الداهمة وضرورة أن تأخذ مداها في الحلول أن تستمر التهدئة أقلّه حتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية أو أبكر بقليل وما سيؤججها عودة الاشتباك على منصّة “الخَلَف”، مع الأخذ في الاعتبار إمكان حدوث تقلبات سياسية خلال تلك الفترة، والمُقدّر أن تكون “تحت السقف”.
وليد جنبلاط وسمير جعجع استدركا ما يجري. ثَمة مناخ دولي مُغاير في لبنان، لذا كان ضرورياً لهم أن يكونوا ضمن القافلة “بخصوصيتهما” على اعتبار أن البقاء خارجها لن يذر سوى المتاعب. لذا يُسجّل لهما بُعد نظرهما.صالون البيك السياسي “مرتاح”.
على الأرجح حين يسأل عما جنته الزيارة لا يتردّد في القول أن الزمن “زمن تحوّلات في الداخل، والحلّ لا بدّ أن يكون جامعاً”، والأولوية للجبل بعد رصد نمو حالة الاحتقان الشعبي حيث لا مفر من عدم تكرار سيناريو الشويفات 1 و 2 وقبرشمون اللتان أعطتا انطباعاً أن السلاح متفلّت من الضوابط.
لذا لا داعي الآن للمغامرات، فلم يدم للعهد سوى عامين! لسمير جعجع مآرب أخرى من الدخول في “الحوصة” كما كل الذين وقّعوا على كشوفاتهم فيها، يبقى الثابت أن مسارَيْن حكما ما يدور على الساحة الآن: ديبلوماسي يقوده عدد من السفراء المعنيين وداخلي رتّبت أوراقه التطورات.
عبدالله قمح- ليبانون ديبايت